العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية

لسان حال ضحايا القمع والعنف السلطوي من السوريين يقول: “نحن لا نريد الثأر ولا الانتقام، نحن نطلب العدالة والمساءلة، ولو كانت ناقصة فهي خير من اللاعدالة”.
أعتقد أن تداخل عناصر القوة وتنوع تأثيراتها السلبية عقدا إمكانية تحقيق العدالة، بشكلها الانتقالي الذي يعني جبر الضرر والمساءلة والمصالحة، ثم المسامحة بعد الاعتراف بالذنب تجاه الضحايا بشفافية من قبل الجاني، وإحالة الأكثر إجرامًا وخطورة كفعل جرمي إلى محاكم جنايات دولية أو محاكم وطنية تبعًا للانتهاك وجسامته، فاللاعقلانية التي سادت في القضية السورية صعّبت إمكانية تحقيق العدالة بالشروط المقبولة والمرضية، وهي ليست العدالة المنتظرة من قبل الضحايا. وقد ننتظر إلى ما بعد سقوط الطاغية بشار الأسد.
إن الانتهاكات في سورية جاءت من أطراف متعددة متدخلة في الملف السوري، ويتحمّل أغلبها النظام وأجهزته القمعية، وهي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة، وهي جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وقانون روما الأساسي، أي انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وكذلك روسيا وإيران مارسوا انتهاكات فظيعة، كقصف المشافي والمدارس والمدن والمدنيين والتجمعات والأسواق، وأيضًا، هناك مجموعات مسلحة وميليشيات طائفية متورطة، كـ (حزب الله) اللبناني، وغير ذلك من الفصائل الإسلامية المتطرفة كتنظيم (داعش)، وأيضًا، هناك مجموعات أخرى لا مرجعية قانونية لها لمحاسبتها لاحقًا، وقد تحاسب كأفراد عندما يلقى القبض عليها بموجب الولاية القضائية الدولية، كما حدث للناطق الرسمي لجيش الإسلام في الغوطة (مجدي نعمة الملقب بـ “إسلام علوش”)، الموقوف حاليًا على خلفية ممارسة العنف والقتل والتعذيب في منطقة دوما في الغوطة الشرقية. لذلك سنناقش الأدوات المتاحة للمساءلة وعدم الإفلات من العقاب:
مبدأ الولاية القضائية الدولية:
هي أداة دولية قضائية تُستعمل للحدّ ولمنع الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، ولتجريم مرتكبيها ومعاقبة الأفراد مرتكبي هذه الجرائم الخطيرة، وهو مبدأ أخذت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأخذ به أغلب دول العالم التي يدخل القانون الدولي الإنساني في تشريعاتها وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان، وهو ما طبقته فعليًّا خمس دول حيث قامت بتفعيل هذا المبدأ، وهي (فرنسا؛ ألمانيا؛ إسبانيا؛ النروج؛ السويد)، تبعًا للعائدية والاختصاص. وقد تم تحريك ملفات عدة بحق متهمين سوريين لارتكابهم انتهاكات في سورية (ما سمي بمحاكمة كوبلنز الألمانية التي أقامها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية بحق العقيد أنور رسلان وإياد غريب)، وصدر حكمٌ بحق الأخير بسجنه أربع سنوات عن المحكمة الألمانية، لكونه متهمًا على خلفية الاعتقال والتوقيف التعسفي لأشخاص متظاهرين سلميين في دوما، لصالح الفرع الأمني (251)، ونُسب إلى العقيد رسلان جرائم ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وقد تكون عقوبته أشد قسوة.
وسبق لمحكمة فرنسية أن أصدرت حكمًا غيابيًا بحق ثلاثة ضباط (علي مملوك، جميل حسن، عبد السلام محمود)، بعد أن قام مواطن سوري من أهالي الضحايا -تم توقيف شقيقه وابنه في سورية على خلفية الأحداث لدى المخابرات الجوية وتُوفيا تحت التعذيب- برفع دعوى قضائية ضدهم في فرنسا، لكونه يحمل الجنسية الفرنسية، وهذا ما يجعل اختصاص المحاكم الجنائية الفرنسية تبعًا للتبعية والاختصاص. وحُرّكت أيضًا ملفات جنائية بحق رفعت الأسد بكل من إسبانيا؛ سويسرا؛ فرنسا، على خلفية ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ثمانينيات القرن الماضي، كجريمة سجن تدمر وقتل سجناء يقدر عددهم بـ 1200 سجين أعزل، وكذلك مجزرة مدينة حماة، وتدمير المدينة عام 1982، إضافة إلى اختلاس أموال وفساد، وهي جرائم تدخل ضمن اختصاص المحاكم الجنائية الدولية، ولن تسقط بالتقادم، وتُعَد من الجرائم الدولية، وهي جنائية الوصف، وتدخل ضمن الولاية القضائية الدولية.
وكما ذكرت آنفًا، اعتقل العام الماضي في فرنسا الناطق الرسمي باسم جيش الإسلام (مجدي نعمة الملقب بـ “إسلام علوش”)، وجيش الإسلام فصيل إسلامي متطرف كان مسيطرًا على منطقة دوما، ومارس فيها انتهاكات خطيرة بحق السكان المدنيين في الغوطة، من قتل واعتقال وتعذيب وخطف وإخفاء قسري، وكل هذه التهم تدخل في اختصاص القضاء الجزائي الدولي، وفق قانون روما الأساسي لعام 1998، وقد تابع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير السوري هذا الملف قضائيًا. وهناك ملفات عديدة تُحضر في أوروبا من قِبل هيئات حقوقية سورية، بالتعاون مع مراكز قانونية أوروبية، في ملاحقة المجرمين بحق الشعب السوري من أي جهة كانت، فالعدالة هي العدالة، والمحاسبة والمساءلة تشمل كل من ارتكب جرمًا في حق أشخاص سوريين منذ عام 2011. ومن مبادئ الولاية القضائية الدولية توفّر شرطين أساسيين للملاحقة: الأول أن تعلم الدولة أن الشخص مرتكب الانتهاكات لحقوق الإنسان موجودٌ على أراضيها أو على إقليمها، وخاضع لولايتها القضائية؛ والثاني وجود الضحية أو ذويه على أراضيها، أو أن يحمل جنسية الدولة (حالة رفعت الأسد في فرنسا).
وتستطيع تقارير وتوثيقات مراكز حقوقية وقانونية ومنظمات دولية إحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان في سورية للمساءلة والمحاسبة إلى الجنائية الدولية، كمنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، عبر الأمين العام للأمم المتحدة (جرائم إلقاء الغازات السامة على خان شيخون نيسان/ أبريل 2017، وجريمة غاز الكلور)، من دون العودة إلى مجلس الأمن، لكون النظام السوري عضوًا في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من جهة، ولكونها أحد منظمات الأمم المتحدة، وبالتالي؛ يستطيع النائب العام وضع يده على الملفّ بعيدًا عن مجلس الأمن، خاصة تقريرها المؤرخ في 12 نيسان/ أبريل عام 2021. وأيضًا، هناك مؤسسة غرينيكا للعدالة الدولية، وهي منظمة دولية قدمت ملفًا قانونيًا كاملًا إلى المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية، بخصوص انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان بقضية المهجرين قسريًّا إلى الأردن، وهي جريمة ضد الإنسانية، وتدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية، لكون الأردن دولة عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، مستندة إلى حالة مماثلة لمهجري قبائل الروهينغا في بنغلادش، وهذا كان مدخلًا لمؤسسة غرينيكا لإحالة ملف السوريين المهجرين قسريًّا إلى الأردن، وفقًا لهذه الحجة إلى النائب العام لدى المحكمة.
نحن نرى أن موضوع المحاسبة والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب قادم، وقد وُضع على صفيح ساخن في الأمم المتحدة ودوليًّا، بعد صدور اتهام صريح وواضح للنظام السوري ولرأس النظام شخصيًّا، لأنه هو من أصدر الأوامر بإلقاء الغازات السامة على بلدة سراقب عام 2018، التي راح ضحيتها تسعة أشخاص. وتعدّ العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية، وتبدأ أولًا بمساءلة بشار الأسد شخصيًّا (من الأعلى الى الأسفل)، ثم دائرته ومحيطه وعائلته وكبار معاونيه. وتعدّ المساءلة من أولويات العدالة، وهي ضرورة ملحة لوضع حد للانتهاكات التي ارتُكبت في سورية، وإحساس الضحايا بأن العدالة والمساءلة قادمة قد يردّ الاعتبار للضحية. ونعتقد أن محاكمة المجرمين في سورية ستتم عبر ثلاثة أنواع من المحاكم:

 تقديم الأسد وشقيقه ماهر وضباط الحلقة الأولى إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بهولندا، لأن أفعالهم هي الأخطر، كما في جرائم إلقاء المواد السامة على المدن السورية (تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الصادر في 12 نيسان/ أبريل 2021، وفيه حقائق تُظهر من هو الفاعل ومن أصدر الأوامر، وأدلة يقينية بتحديد المسؤولية، وفيه إدانة صريحة للنظام السوري ولبشار الأسد).

محاكم مختلطة سورية – أممية، تكون تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحاكم كبار الضباط والمجرمين الذين مارسوا انتهاكات خطيرة بحق السوريين.

محاكم وطنية بمعايير دولية، تراعي وتأخذ بالقوانين الدولية والتشريعات المعنية بحقوق الإنسان، مثل إلغاء عقوبة الإعدام من تشريعات كثير من الدول، وفق نص المادة 49 من معاهدات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها لعام 1977، مع وجود إرادة دولية ودعم مالي ومعنوي وحقوقي وبخبراء.

السؤال: هل القضاء الجنائي الدولي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق العدالة القضائية ومحاسبة المجرمين وفقًا لمبدأ الولاية القضائية الدولية، بدلًا من المحكمة الجنائية الدولية التي عطّل عملها الفيتو الروسي لأكثر من 15 مرة؟ الجواب: نعم، ولكن بعد توفر الإرادة الدولية، ولو تأخرت قليلًا. مع العلم أن جرائم كهذه لا تسقط بالتقادم، ولا يشملها عفو، ولا تحميها أي حصانة (محاكمة بينوشيه في تشيلي، ومحاكمات قيادات النازية في نورم بيرغ عام 1945)، فالعدالة تقدّم اعترافًا بحقوق الضحايا، كما حدث في جنوب أفريقيا في عهد نيلسون مانديلا عام 1992، وتعيد الثقة لذوي الضحايا، وتدعم دولة القانون والديمقراطية، وتعطي دفعًا قويًّا لمبدأ العدالة بالسير نحو المصالحة واستقرار المجتمع بعد الحرب. ونعتقد أن الملف الحقوقي هو أقوى الملفات بيد القوى السورية المعارضة، لأن ملفّ العدالة والمساءلة أسقط النظام أخلاقيًّا ودوليًّا وعرّاه تمامًا، وأظهر للعالم الانتهاكات الخطيرة التي مورست على شعب أعزل.
نقترح وضع إستراتيجية لمشاريع قانونية لتطبيق العدالة، وهذا يحتاج إلى تشبيك وتنسيق وتعاون مع كل الأطراف الدولية، إلى جانب الأمم المتحدة، لتطبيق مبدأ المحاسبة والمساءلة وملاحقة المجرمين وتقديمهم للمحاكم الجنائية الدولية، ولاحقًا إلى المحاكم الوطنية، وتحضير وتجهيز الملفات بحق الأفراد والأشخاص، لكون الجانب القانوني والقضائي في العدالة الانتقالية هو من يشرف على مسار العدالة في سورية، إلى جانب لجان تحقيق محلية وطنية بمختلف مستوياتها ومراحلها، عبر تفكيك منظومة الاستبداد، وتأمين الأمن والاستقرار للإنسان السوري، وجبر الضرر، ورد الاعتبار للضحايا، والاعتذار منهم، وإنصافهم وضمان عدم تكرار ما حدث من انتهاكات، بشكلٍ علني وبكل شفافية.

 

المحامي والناشط الحقوقي إبراهيم ملكي

Skip to content